ديمقراطية الأمر الواقع...!!

ديمقراطية الأمر الواقع...!!

الوعود التي قطعها المترشحون لمختلف المجالس المنتخبة،من البرلمان الى البلدية، سرعان ما ذهبت أدراج الرياح،وعاد الوضع الى ما كان عليه من تململ وغياب للثقة وانهيار مرعب لكل جسور التواصل،وليس أمام هذا المواطن الذي أعيته الوعود المعلبة،في صناديق ديمقراطية الأمر الواقع، غير انتظار معجزة من السماء..
إن اللوم لا يقع على المواطن الذي صدق هذه الوعود الكاذبة،ولا على السلطة التي تقاتل بشراسة ،في كل موعد انتخابي لتخلف نفسها، أو على هذه الأحزاب التي كرست هذا النمط الرخيص من السلوكات السياسية الرديئة، فالسياسة عند هؤلاء جميعا، كانت وما تزال وستظل، هي فن الممكن...
وهي أيضا الوصول الى الغايات التي تبررها كل الوسائل،حتى لو كانت عن طريق الكذب والتلاعب بعواطف البسطاء والمسحوقين من أبناء الشعب، فقواعد اللعبة مكشوفة منذ بدايتها،وليس لأحد أن يحتج الآن، لماذا كذب فلان على سكان قريته،وغير رقم هاتفه النقال،وطلق بنت القرية،ليتزوج بشقراء عاصمية،بمجرد أن منحوه بطاقة الدخول الى البرلمان؟
أو لماذا تراجع فلان عن المواثيق الغليظة التي قطعها أمام سكان دشرته، مباشرة بعد أن أجلسوه على كرسي البلدية؟؟
أما أولئك الذين يمكن استثناؤهم من هذه الصورة القاتمة، فإنهم سرعان ما يستسلمون لقواعد اللعبة الجديدة،بعد أن يجدوا أنفسهم قلة مهمشة،تغرد خارج السرب المقدس،لا حول لها ولا قوة،مما يدفعهم للتفكير ألف مرة ،في مسألة الوفاء بوعودهم للمواطن، قبل أن يقرروا السباحة ضد التيار، وخوض معركة خاسرة،ضد هذه الآلة الجهنمية التي أحكمت قبضتها الفولاذية، على كل المفاصل والتفاصيل في خارطة البلاد..
ولن يكون اللوم على هؤلاء أيضا،رغم تحليهم بحسن النية،ماداموا عاجزين ،بقوة القانون عن التغيير،وليس في وسعهم الالتزام بما قطعوه على أنفسهم من عهود للمواطن، الذي كان يبدو ظاهريا في عملية الانتخاب،أنه صاحب القرار الأوحد،في منح المناصب والألقاب والامتيازات،ولكنهم يكتشفون سريعا،أن صاحب القرار الحقيقي،هو تلك الآلة الجهنمية التي تتخفى وراء ستار الشعارات والثوابت الوطنية والمصالح العليا للبلاد،لتواصل دورة حياتها دون كوابح أوممهلات،رغم لجوئها أحيانا للتوقف الاضطراري،من أجل تغيير بعض الإكسسوارات البشرية،كشكل من أشكال السلامة التي تتطلبها ديمقراطية الأمر الواقع...
ولكن اللوم كل اللوم، يقع على عاتق هذه النخبة التي مازالت تصر على سياسة الانسحاب، واعتماد منهج النأي بالنفس عن الخوض في الشؤون العامة،ظنا منها أنها على الجانب الصحيح من التاريخ،مبررة موقفها بعدم المشاركة من قريب أو بعيد،في أي فصل من فصول هذا الواقع الذي نعيشه جميعا،بكل ما يحمل من مرارة وخيبات أمل متلاحقة...
وبهذا تكون النخبة الجزائرية،في كل المستويات والحقول والمشارب والتخصصات،قد أسهمت بقسط وافر، في تكريس وتثبيت أركان هذا الواقع،وتنصلت من كل التزاماتها الأخلاقية والتاريخية تجاه نفسها ووطنها،دونما إحساس بالحرج أو بتأنيب الضمير..
فلوكان لهذا المواطن نخبة حقيقية،تقود خطاه في الاتجاهات السليمة،وتضبط له معالم الطريق،وسط هذه العتمة الخانقة التي تحيط به كل الجهات،لما استطاع أولئك الرهط من البشر،أن يتجرأو على التلاعب بعواطفه،أوالتنصل من التزاماتهم له، أثناء الحملات الانتخابية..
ولما تمادت السلطة في تجاهل حاجة المجتمع الملحة الى التغيير الحقيقي،وفق خارطة طريق واضحة،لا مكان فيها للارتجال والمغامرة..ولا حظ فيها للمحاباة والمحسوبية والولاءات الشخصية المرذولة.
إننا نحمل النخبة كل أوزار هذا الوضع الذي وصلنا إليه اليوم،ونعتبر صمتها أمام ما يحدث في البلاد، من فظاعات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية،ومن انتهاكات يومية للحقوق الأساسية للمواطن،ومن انقلاب فاضح على رسالة الشهداء وقيم ثورة نوفمبر العظيمة، تزكية مباشرة لمزيد من الفظاعات والانتهاكات،وتشجيع متعمد لمزيد من التعفن والتحلل والاختلال،رغم أن الكثير من الناس،يسألوننا عن حقيقة وجود هذه النخبة في الجزائر،لأنهم بحثوا عنها طويلا،ولم يجدوا لها أثرا في أي مكان..
فهل هي كائن غير مرئي، أم أنها خرافة من خرافات هذا الواقع المرير؟؟
إننا لا نجادل في ندرة هذه النخبة،وغياب إطاراتها الفعالة عن دنيا الناس وانشغالاتهم،ولا ننكر أيضا أنها توشك أن تصبح كائنا أسطوريا،لا وجود له إلا في الأحاجي والقصص الشعبية،وهو ما يدفع المشككين في وجودها،الى مزيد من اليأس والإحباط،ولكن هذه الأصوات التي بدأت ترتفع من تحت أكوام الرماد،من خلال بعض المنابر الاجتماعية والشعبية،عبر كامل أنحاء القطر،تكاد تزرع في النفس بذورا صادقة للأمل،يمكنها أن تصير عما
قريب،أشجارا باسقة ومنارات شامخة،تبشر بهذا العصر الجزائري الجديد..