لا بدّ منك يا سطيف

لا بدّ منك يا سطيف
18/ مخ الهدرة

على أنغام النشيد الوطني الجزائري وقف الحضور في خُشوع وإجلالٍ واضعين نصْب أعْيُنهم علم البلاد الذي استلهموا منه في طراءة أعمارهم وفي حدائق نضجهم عِبَر الإباء والصُّمود والعزة والشموخ،
وعندما استعادت القاعة صمتها غادر السيد نبيل غندوسي مكانه نحو المنبر فرحّب بالمشاركين في الملتقى وبروّاده ودعا الأستاذ الجامعي الشاعر الناصر معماش لإدارة أشغال الندوة في يومها الثاني والأخير .
جلس بقربي كهل يرتدي جبّة بيضاء فجرّني جلوسه بجواري إلى التكهّن بأنه ليس من أهل المدينة ولا هو من المدعوّيين الرسميين للإسهام في الفعاليات ، لأنني لم أره خلال جلسة الأمس ولم يتواجد معنا في بهو المتحف قبل التحاقنا بقاعته .
قرّب فمه من أذني وقال :
ـ أنت الأستاذ عاشور بوكلْوًة ؟
كنت أعاني من ضراوة اكتظاظ الوقت الذي لمْ نجدْ فيه فسحة للترويح على أنفسنا في مدينة واسعة زرناها لأوّل مرّة ولم تتحرّك أقدامنا في شوارعها وأنهجها وساحاتها لنطّلع على فيها عن كثب، ونسمع أصوات خلق الله تنسج إزار حياتها، ونضع أرجلنا على ترابها وإسفلتها ونمرّر أيادينا فوق ما لانَ أوْ تصلّب منها ... لذلك أجبتُ الرجلَ بانقباض:
= لا يا سِيدي ،أنا مانِيش لا الأستاذ بوكلوْة ولا الأستاذ بوقَلبْ .
ثم أشرتُ بإصبعي إلى شخص جالس في أحدى الصفوف الأمامية:
= هذاك راهو الأستاذ بوكلوَه ،، شِفتُو؟
حدّق في وجهي مبتسما :
ـ إينعمْ يا سيدي شِفْتُو..وِانت زعْمَهْ ما تْكُونشْ لَمينْ دحمانيّ؟
في تلك اللحظة دعا الأستاذ الناصر معماش محمد عيسى المؤدب لتقديم مداخلته التي تحمل عنوان " الرفض والتجاوز في الشعر المغاربي: هذا ملكوتي للمكي الهمامي وزغرودة الماء لنور الدين طيبي أ نموذجا ".
رفعتُ صوتي قائلا :
= أنموذجيْن....
احتل عيسى مكانه أمام المصدح ورفع رأسه في اتجاهي فرأيت عينيْه المتعبتين تعاتبانني على ما تفوّهتُ به، فصمتُ كما يصمت التلميذ الذي يزجره الأستاذ.
لم يتخلّ الرجل عن سؤاله :
ـ قلتْ لكْ زعمهْ انْت ما تكُونشْ لمين دحماني ؟
أجبت باقتضاب لأركّز على موضوع عيسى .
= لا أنا ماني لمينْ دحمانْ وماني لمينْ لنّهدي زادهْ.
ـ لامين النهدي ،، لهجتكْ تقولْ لي إللي أنت تونسي !
= نعم .. أنا تونسي ، ولَوْ تسْمحْ نَسْمُعُو مْعَ بعضْنا كْلام المحاضِرينْ وُكِيفْ نخْرْجو مِِ القاعهْ نتْكَلْمو.
شعر المسكين بحَرَج ظنّا منه أنّ كلامه قد ضايقني فاعتذر لي على كثرة أسئلته مبرّرا طرحها بقدومه من خارج المدينة لأنّه شاعر شعبي يقطن بناحية ريفية ويحرص على متابعة اللقاءات الأدبية في مدينة سطيف التي تتعدّد فيها الأنشطة بتواتر نشيط .
ثمّ صمت وركز نظراته على عيسى وهو يصول ويجول في قاعة حطّت الطيور على رؤوس من فيها .
بعد عيسى تطرّق الدكتور الزبير الذويبي إلى موضوع الثورة الجزائرية في الشعر الليبي،فلمْ يكتم جاري صوته عندما طرح سؤاله على نفسه وعلى سامِعيه القريبِين منه:
ـ لكنْ ،وِيني الثوْرة الليبية في الشعر الجزائري ؟
ثمّ استطرد :
ـ مفدي زكريا كان شاعرْ المغرب العربي والثورهْ الجزائريهْ وكْتبْ النشيدْ الوطني وْإلياذة الجزائر اللّي تْحدّثْ فيها على أمجادْ لبْلادْ وتاريخها وسِحْرْها وجَمالها ،وحتّى عْلى بطولات أجدادو الأمازيغيين اللّي قالْ عْليهم :
صـمود الأمـازيـغ عبر القـرون
غـزا النيّراتِ و راع النّجومَا
فـكمْ أزعـجوا نائبـات الليـالي
و كـم دوّخوا المـستبدَ الـظَّلومَا
سـلَوْا طبـرية يـذكرْ تِبـِيرْيُـــــوسَ
تِيـكْفَرِنـَاسَ يُوالي الهُـجُومـَـــــا
ثمـان سنـينَ يصـارع رومـا
فـدقّ الـمسامير في نعش رومَا
و أوْحـى له الأطـلسُ الـوِحْدَوِيّ ،
فوحـّدنا فانطلـقنا رُجُـومَــــــــــا
فاجأني ذلك الشاعر الشّعبي بثقافة محترمة فتمنّيت أنْ أواصل معه الحديث لولا انتباهـي إلى أنّ
الإذاعية الشاعرة سلوى لميس مسعي فقد ركّزت كلامها على الثورات التحررية في الأدب، وطرح القاص محمد رابحي إشكالات الوحدة الأدبية المغاربية ،وتواصل ماراتون المداخلات ،التي استغرق الكلام في مسارها وقتا لا يقلّ عن الساعتين باعتبار تدخلات رئيس الجلسة ، فسرد الدكتور اليامين بن التومي من جامعة سطيف مداخلة ختامية بعنوان " الثورة والجسد:البوعزيزي كائنا شعريا"،بينما لم تتجاوز النقاشات والردود عليها ساعة واحدة من زمن الجلوس الذي عرّق سراويلنا,
انتهى الشوط الأول من الجلسة فتخلصنا منه إلى البهْو لتناول المشروبات والمرطبات وتبادل الحوارات ، فجذب كلَّ واحد من التونسيين أخوة ٌجزائريون لتخليد الذكرى معهم بالتقاط صوَر جماعية فغاب عني عيسى ورأيتُ سندس على بُعد أمتار منّي مكفهرّة الوجه فعزمتُ على التوجّه نحوها للتعرف على ما يشغلها فتلقفني الشاعر الشعبي وحدثني عن همومه وعن المصاعب التي تعترضه كلما فكّر في نشر أشعاره بين الناس ،وعرض عليّ في نهاية كلامه أنْ أكون ـ مع سوسن وعيسى ـ ضيوفا عليه غدا في ريفه الجميل ليطعمنا من لحم أحد الخِراف ويسقينا من حليب ولبَن أغنام جنّته محتجّا على أكل المطاعم في المدينة بالقول :
ـ أنا عْلى ما نْقُلّكْ. راهي الماكْلَهْ في لِمْدينهْ ما تِكْرِمْشْ الضّيفْ.
أعلمته بعدم قدرتنا على تلبية دعْوته الكريمة لأننا مضطرون إلى مغادرة سطيف فجْر الغد للعودة إلى تونس، فتأسف على ذلك وهو يضع يده على كتفي :
ـ إنشا أللهْ المرّهْ الجايّهْ تكونوا ضيافي.
أقترب منّي عيسى فجذبني، بعد طلب الأذن من محدثي، وقادني إلى ركن خال من الناس وقال:
ـ كلّمتْ علاّلهْ ؟
= إينعمْ .. كلّمتو قبل الجلسهْ العلميهْ. ،،
ـ مُخ الهدْرَهْ ،آشْ قالْ؟
= قالْ بعْدْ الجلسهْ.
ـ توَّه ماضي السّاعهْ .. والجَلْسهْ ما زالتْ باشْ تتواصلْ بالقراءات الشعريهْ.
= آشْ عنّا ما نعْمْلُو .. الضِّيفْ في كُلْفِةْ المُضيّفْ كيفْ ما يْقُولُو.
ـ والمُضَيِّفْ كانْ يقْرأْ حْساباتْنا ويعْرفْ ظُرُوفْنا باللّي نحنَ جأيّينْ حَجْ وحْويجهْ بعْدْ سَفَرْ طْويلْ وُمُتْعِبْ .
= سَبّقْ الخِيرْ تَلْْقَ الخِيرْ ، كِيفْ ما قالْ عبد الكريمْ المِدّبْ في مسرحيةْ حَمّهْ الجريدي .
ـ عبد الكريمْ المِدّبْ مْتاعِكْ لوْ كانْ جاءْ مْعَانا راهُو قالْ سبّقْ التّعَبْ تلْق التّعَبْ .
لم يكنْ عيسى متشائما ولكنه كان يكره التّمطيط والإنتظار الذي قدْ لا يأتي ختامه بنتيجة مرتقبة فهو ابن الرجل الكادح الذي لمْ يكنْ يتردّد في أنْ يحمل الفأس والمجرفة لينْجز عمله بدْءًا من طلوع الفجر قبل أن يأتي وقت الضحى ليتفرّغ إلى عمل غيْرَه ,, وهو كذلك الكاتب الحريص على أنْ يوَفّيَ حقّ نفسه وحقّ أسرته وحق البرنامج الإذاعي الذي يكتب له ، فلا يغفل عن هذا لأجْل ذاك ولا يعلّل غيره بالوعود التي يبقى الإيفاء بها رهين التحقيق أو عدمه .
كان بيني وبين عيسى تخاطر في التفكير ،لذلك ظلّ صامتا وظللت ساكنا للحظات إلى أن رأينا فيها سوسن تقود لميس من يدها إلى ركن مهجور وهُما تُسْرعان الخطى ككِيسيْن بلاستيكييْن تحملهما الريح .
قال لي :
ـ هيّا نقتربْ منهما قليلا دون أن تُشعرا بنا لنسمع ما تقولان !
أربع خطوات وقدَمٍ واحد كانت كافيه لتخطّي مجموعة من الشعراء المشاركين من قسنطينة وقالمة من بينهم محمد لمين حجاجي ووافية بن مسعود وثلجة عمائرية وعبد الحليم مخالفة ،لنرصد أصابع سوسن وهي تتحرّك بعصبيّة ،، قالتْ :
ـ يا لميسْ إنتِ ماكْ حْضرْتِ ملتقى عامر بوترعه للشعر المغاربي بسيدي بوزيدْ
+ طبْعًا حْظرت وحْجزتْ مْعاك غرفةْ نومْ واحدة.
ـ رِيتِ كيفاشْ أوقاتْ الأنشطهْ مْقسْمَهْ ... هذي للندوات ،، وهذي للأكل ،، وهذي للسّمَرْ ،، وهذي للجوْلات والاستطلاعات ...؟
+ باركْ الله في هيئةْ الملتقى .
ـ لا ، أنا ما طْلبْتشْ منّكْ باشْ تشكُريهمْ وإلّ تْذمّيهم ، إنما حَبّيتْ نْقُلّك علاشْ هْنا ما قْرِيتوشْ حسابْ أوقات الفراغ اللّي هيّ لازمهْ في كلْ ملتقى، باشْ المشارك يِقْدِرْ يِتْجوّلْ ويِتْعرّف على أشياء ما يِعرِفْهاشْ ... يِنَجّم يشري هدايا للعيلَهْ ... يشري كْتُبْ وأشرطهْ مغناطيسيّة واقراصْ مضغوطهْ يِتْذّكِرْ بيها إللّي هوّ سافِرْ... أحسِنْ منْ أنّو الزائرْ يدْخلْ ويُخْرجْ لا شافْ وُلا سْمع كأَنّو قطّوسْ في شْكارهْ.
+ أعْذْرِي هيئة التنظيم ، راهي في التجربهْ الأولى وانْ شاءَ الله بعْد التقْييمْ تسْتعَدْ لِمَا هُوّ أحْسنْ في الدّوْرهْ الجايّهْ .
ـ الدَّوْرهْ الجايّهْ لِلّّي باشْ يشاركْ فيها .
لمْ نُعَلّقْ على حوار المرأتَيْن لأنّ أحدَ المنظمين قد دعا الجميع إلى تسلّم مجموعة من الكتب التي وضعتها مديرية الثقافة وجمعية النبراس الثقافي على ذمة المشاركين.
أخذنا نصيبنا من الغنيمة وعدْنا إلى قاعة الإجتماعات فاستمعنا إلى الشعر واللاّ شعر إلى ما بعد الساعة الثانية ظهرا ، وتمّ تكريمنا بما يليق باحترامنا كوفد أدبي تونسي .
بعد اختتام الملتقى قال عيسى لعلاّلهْ كوسة:
ـ واشْ عْملْنا تَوّهْ ؟
فأجابه بهدوء :
× معَ الأسفْ ،، قالوا سوقْ العِلْمهْ مْبَلّعْ اليوم لَعْشِيّهْ .
سأل عيسى :
ـ أشْ معْناها مْبَلّعْ؟
أجَبْته :
= معْناها مْسَكّرْ ... إحْنا عنّا بَلّعْ فُمّكْ معْناها سَكّرْ فُمّكْ.
غمغم قائلا :
ـ حتّى آنا يلْزمني نْبَلّع فُمّي.
يتبع
المحطة القادمة : مِيتِينْ في لِمْيا صُولْدْ