الدكتور ابراهيم خليل

د. ابراهيم خليل*
ما من مرة تلقيت فيها ديوانا لشاعر شاب، إلا قرأته، باحثا فيه عن صوت شعري حقيقي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويخلو- في الوقت نفسه - من الأخطاء؛ سواءٌ على المستوى اللغوي، أوعلى مستوى التشكيلات الشعرية من نظم، وتصوير، واستخدام للاستعارات المبتكرة، التي تعيد للشعر سحره، فلا أعثر على ضالتي المفقودة،. وإذا تذكرنا أن السياب- مثلا - نشر أول دواوينه وعمره نحو 20 سنة، وقارناه من حيث مستواه بما ينشر من شعر الشباب، أو ينشد في المنابر، وفي أروقة الإلقاء، ومن وراء المجهار (الميكرفون)، لاحظنا أن أكثر هذا الجيل يعاني من ضعف فاضح في مستواه اللغوي، و في تدني ذوقه الشعري، فتراه يخطئ في الوزن، وفي القافية، وفي إعراب الكلمات، وفي كتابتها إملائيًا، ومع ذلك يترنم بها وكأنه- دون تشبيه – المتنبي، أو البحتري، أو أحمد شوقي. مَنْ مِنْ هؤلاء الشعراء يستطيع أن يقول ما قاله الشابي وعمره أقل من 16 عاما؟
ها هي ذي واحدة من هؤلاء الشعراء الميامين تنشد قائلة :
لم تزرني يافا في عيني أمي الخضراوين
عندما مشيت هناك قلت له
كهذا البحر يبتدئ الخفيّ فيك
رقة على العفوي
فيكون مزرقا لعناق بنت الريح
غير محمرّ لبديهية في الثلج
فالقارئ، والسامع على السواء، إن كانا ممن يعرفون الشعر معرفة حقة، يتساءلان: أين هو الشعر في هذا الكلم غير المتوازن، ولا المترابط ؟ فما دلالة قول الشاعرة: رقة على العفوي. أتحدى أي قارئ يستطيع أن يترجم هذه العبارة لكلام كالذي يتحدث به الناس. وما البديهية التي في الثلج التي تجعل الشيء يحمرّ بدلا من أن يزرق، ولماذا يكون العفوي هذا مزرقا لعناق بنتِ الريح؟ أسئلة كثيرة يطرَحُها السامع، والقارئ، فلا يجدا لها إجاباتٍ في هذا الكلام الذي هو كلام بريء من الشعر، براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وهذا أيضا كلام يقالُ له شعر:
أرجوحة في جيبها أوراقي
تغدو وتذهب فرقة وتلاقي
عنقود ليل قد تمادى عتمة
ونجومه كفت عن الإغداق.
يستقيم الوزن ولا يستقيم شيء آخر، فالقافية في البيتين تم إكراهها على الاستقرار في هذا الموقع، واضطرت الشاعرة لاستعمال كلمة إغداق، ولا أظنها إلا من باب التماثل في حرف الروي حسب، إذ لا يوجد اتساق بين النجوم والكف عن الإغداق، دون أن يكون لذلك سبب من معنى تريد الإيحاء به والإشارة إليه، وهذا ضرب بعيد من الظنّ. ثم إن هذه الشاعر تحاول أن تبتدع تشبيها فتشبه الليل بالعنقود، وهذا غريب جدا. فمن اي منظور يتشابه الليل، والعنقود.ثم ما نوع هذا العنقود، هل من العنب الأبيض، أم من الحلواني، أم الزيني، أم الرازقي أم الخليلي؟ أم ماذا؟. أما تركيب العطف " فرقة وتلاقي " فلا سلاسة فيه، ولا تناغم، فضلا عن أنّ فيه خطأً نحويًا وصرفيًا فاحشًا إذ ينبغي أن تكون تلاقٍ، وإذا جرى إشباع الكسرة فمصير الياء هو الحذف، وتكتب إملائيًا مثلما كتبتْ كلمة " إغداق ".
صفوة القول أن هذا الشعر يخلو من المعنى، وهو غارق في الركاكة. وبدلا من أن ترى فيه الرابطة شعرا جيدا عليها أن تشجع هؤلاء على القراءة، وممارسة الكتابة، وتطوير أدواتهم، وصقلها، وإقناعهم بالوسائل الممكنة بأنّ المرء لا يكون شاعرا لمجرد أن واحدا قدمه في أمسية، أو أصبوحة شعرية، وقال له: أنت شاعر، فالشعر صعب وطويل سلمه.
والعلة في هؤلاء، وأضرابهم، أنهم مثقفو إنترنت، وفيس بوك، لا يقرؤون، ولا حتى يمارسون الكتابة ممارسة صحيحة، حتى يكتسبوا القدرة على البيان الرشيق، باللفظ الأنيق. أو أنهم متعجلون، لا يستمعون لمن هم أسبق منهم في المضمار، فيُعرضون عن هذا، زاعمين أنهم مبْدعون مجدّدون، وأنهم يكتبون قصيدة نثر. فكأنَّ قصيدة النثر رخصة يستصدرونها من دائرة الترخيص لتسمح لهم بتشويه اللغة، والأدب، مثلما يشاءون، ويشتهون. ويزيد الطين بلة أن بعض الصحفيين، ممن يكتبون متابعات يومية لبعض الفعاليات الأدبية، ومنها القراءات الشعرية، يغشّون هؤلاء عملا بمعكوس الحديث من غشنا فهو منا. ويصفونهم بالشعراء ، وبالمحلقين المتميزين الذين يسدون الفراغ بعد رحيل درويش، وفدوى طوقان، ومحمد القيسي، ومحمد عفيفي مطر، وبلند الحيدري، وممدوح عدوان، ويوسف الخال، ومعين بسيسو، وخليل حاوي، والبياتي، ولهذا سنظلّ ننتظر إلى أن تغرْبلَ الأيّام هذا العدد الكثير، والحشد الكبير، مبقية من هو شاعرٌ بحقّ، ولعلَّ انتظارنا لا يطول.
( المقصود بالحديث مهرجان أقامته رابطة الكتاب الأردنيين/ عمّان منذ 20 مارس آذار 2013 ـ "قاب قوسين" ) .


*ناقد وأكاديمي من الأردن.