يعد الناقد عبدالله ابراهيم من النقاد القلائل الذين يعيدون قراءة النظريات النقدية برؤى حديثة تستند إلى الوعي بمعطيات التجديد وإعادة قراءة النظريات النقدية وتأويلها بما يتيح خروج الأدب نحو آفاق أكثر اتساعا وشمولية وفقا لأسس نقدية رصينة، وغالبا ما يأتي اشتغاله النقدي منسجما مع الفنون الأخرى؛ لإيمانه بأن العمل الأدبي هو نتاج مشترك لقيم جمالية وثقافية متداخلة، تصلح للقراءة والتأويل من عدة جهات، ترفض القولبة وتنظر الى النص الأدبي كجسد حيوي ليس ملزما بأن يكون عينا «فوتوغرافية» لنقل الواقع بل صانعا للصورة والعين والواقع معا. والدكتور عبدالله ابراهيم مفكّر وأكاديمي متخصص في الدراسات الثقافية والسردية، أصدر اكثر من عشرين كتابا، ونال درجة الدكتوراه في الآداب العربية عام 1991 من جامعة بغداد، وشارك في عشرات المؤتمرات والملتقيات النقدية والفكرية. ثم عمل أستاذا للدراسات الأدبية والنقدية في عدد من الجامعات العربية، وهو باحث مشارك في الموسوعة العالمية (Cambridge History of Arabic Literature). ارتأينا أن نبدأ حوارنا إثر فوز كتابه «التخيّل التاريخي: السرد، والإمبراطورية، والتجربة الاستعمارية» بجائزة الشيخ زايد للدراسات النقدية في دورتها السابعة 2012-2013.
على الناقد مراجعة المستجدات.. وتطوير منهجه.. وإلا فسيكون حجر عثرة أمام النص
* نُقل عنك كثيرا القول بضرورة إبدال مصطلح "الرواية التاريخية" بمصطلح "التخيّل التاريخي"، هل تريد بهذا الاستبدال إلغاء هوية الرواية التاريخية أم كسر الحدود بين الأجناس الأدبية؟
- لا أُريد بإحلال مصطلح "التخيّل التاريخي" محل مصطلح "الرواية التاريخية" إلغاء هوية جنس أدبي، فلا يستطيع ناقد أن يقوم بذلك، إنما أُريد تعديل مفهوم نقدي جرى تداولهُ مدة مئة سنة بدلالة لا تعبّر عن مضمونه، فهذا الإحلال، فيما أرى، سوف يساهم في دفع بالكتابة السرديّة التاريخيّة إلى تخطّي مشكلة الأنواع الأدبيّة، ثم إعادة النظر في حدودها ضمن قضية التجنيس، وتجديد وظائفها الاعتبارية والفنية، وإلى ذلك فأرى أن هذا التعديل سيخرّب الثنائيّة الراسخة، وهي: الرواية والتاريخ، ويعيد دمجهما في هُويّة جديدة قوامها مزج المكونات السردية لا فصلها، وسيقود ذلك إلى زحزحة الفكرة الشائعة في البحث النقدي، وهي مقدار خضوع التخيّلات السرديّة لمبدأ مطابقة المرجعيّات التاريخيّة، وأتطلّع من ذلك إلى الوصول إلى كتابة لا تحمل وقائع التاريخ، إنّما تبحث في طيّاتها عِبر الماضي، وعن التماثلات الرمزيّة فيها، فتجعل منها أطرا ناظمة لأحداثها ودلالاتها، فتلك هي المسارات الكبرى التي يقترحها "التخيّل التاريخيّ". وهذا هو السياق الثقافي الذي طرحته فيه.
* ألا ترى أن هذه النظرية الاستبدالية قد تعطي المسوّغ للغرق في التهويمات الوصفية والانفلات من شروط التجنيس الأدبي، وربما تمنح أنصاف الكتاب المشروعية في قول ما يقولون بناء على نظريتك هذه؟
- ليس النقد هو الذي يُعطي الكتّاب مشروعية الانخراط في عالم الأدب، فكيف بصغارهم!!، إنما الأعراف الأدبية هي التي تفرض على الكاتب شروطها، وهي التي تُحدد موقعهُ في الأدب القومي والعالمي. ولا يمكن للنقد أن يجعل من كاتب ضحل الموهبة كاتبا ذا شأن، لكن ممارسة الخداع ممكنة في كلّ زمان ومكان، واستغلال الآراء النقدية للتغطية على العجز معروف في تاريخ الأدب، على أنها حالات عارضة ليس ينبغي أن نحجم عن قول الحقيقة بسببها، فمرادي من كل ذلك هو مراجعة التصوّرات الأولى لوظيفة "الرواية التاريخيّة"، فقد استنفد المصطلح طاقته الوصفيّة بعد أن جرى تحويل جذريّ في طبيعة الكتابة السردية - التاريخية، التي استحدثت لها وظائف جديدة لم تكن معروفة في عصر جورجي زيدان وأضرابه من الكتّاب، فتراجعت القيمة النقديّة للتصوّرات التي عاصرت ظهورها في الأدب العربيّ الحديث، وأصبحت غير قادرة على الوفاء بتحليل موضوعها، وآن لها أن تكون جزءا من الجدل الذي رافق نشأتها، فمكانها تاريخ الأنواع السرديّة، ويلزم إعادة طرح المفهوم بتحوّلاته الجديدة ضمن مصطلح "التخيّل التاريخيّ"، للتخلّص من العثرات التي لازمت هذا الضرب من الكتابة مدّة طويلة.
* قد يرى بعض النقاد أن بيانك النقدي لم يأت بجديد يضاف للرواية؛ فالرواية التاريخية هي نتاج خيال الكاتب مستندا إلى وقائع يشتغلها على وفق الزاوية التي يرتئيها في حين أن رواية التاريخ هي من عمل المؤرخ التي تستند بشكل رئيسي وموضوعي إلى الحدث التاريخي.